معضلة الإسلام السياسي ظهرت على السطح بعد القضاء على الخلافة العثمانية عام 1924 وإعلان تركيا دولة علمانية فقبل هذا التأريخ كان من يعتلي سدة الحكم في الدول العربية والإسلامية هو ظل الله في الأرض والمؤيد من قبل السلطان والخليفة وان كان يقف موقف المعارض له من الناحية المذهبية فدول الشيعة الامامية (الحمدانيون والبويهيون) على سبيل المثال كانت تحظى برضا الخليفة العباسي (السني) لتبسط سلطانها على هذه البقعة أو تلك، ولذلك لم يعرف الفقهاء والأدبيات الإسلامية مصطلح الإسلام السياسي لغلبة مفهوم الدولة الدينية ، ولكن بعد معاهدة ويستفاليا والثورة الفرنسية ظهر مصطلح الدولة القومية وقيام الدول على أساس قومي (اثني – ثقافي) ولم تعصف رياح الدولة القومية على العالم العربي والإسلامي إلا في مطلع القرن العشرين ليجد المسلمون أنفسهم ولأول مرة أمام معضلة كبيرة ألا وهي (الدولة القومية والفقه الإسلامي) وتلك المعضلة الفكرية تدلي بظلالها على مفاصل كثيرة من أركان الدولة والمجتمع وموقفه من الحداثة في المنظومة التشريعية وحقوق الأقليات بين مفهوم المواطنة في الدولة القومية وأهل الذمة في التراث الإسلامي والموقف من الدول غير الاسلامية (الحرب والجزية) وأمور أخرى.
كل هذه الأمور وأخرى لا يسعها الذكر واجهها الفقهاء والاسلاميون تارة بطأطأة الرأس لرياح التغيير العلمانية التي هبت من أوربا بفعل الاستعمار الغربي واندحار نموذج الدولة الدينية المتهرئ المتمثل في الدولة العثمانية التي كان يطلق عليها (رجل أوربا المريض) الذي لفظه التأريخ وخاصة في القرن الأخير إلا أنها ظلت صامدة ليس بسبب قوتها وانما بسبب توازن القوى الذي فرض حقيقة الابقاء على تلك الدولة إلا إنها سرعان ما أنهارت بعد أن تعرض النظام الدولي لرياح تغيير الحرب العالمية الأولى وانهيار دول المحور بزعامة المانيا والنمسا والعثمانيين، لذلك اعتمد هؤلاء وآمنوا بأن الفقه الإسلامي (بآلياته السابقة) لم يعد يتوافق مع قيم الحداثة وبالتالي لا بد من تحديث المنظومة التشريعية على وفق القانون الفرنسي وقاد هذا التيار السنهوري رحمه الله تعالى الذي آمن بأن التشريعات الوضعية هي امتداد لتعاليم الوحي الأول لذلك بدأ بالشروع في عمل القانون المدني والدساتير لدول عربية عديدة (مصر، العراق، سوريا، الكويت، ليبيا، السودان وغيرها)، وقد كان هذا التيار قويا مستفيدا من عصر التنوير الذي قاده رفاعة الطهطاوي، ومن بعده الإمام محمد عبده ومن حركة المسيحيين العرب في بلاد الشام الذين بدأوا بالترويج للدولة القومية كالمعلم بطرس البستاني وابراهيم ونصيف اليازجي وشكيب أرسلان وغيرهم الذين أسسوا للمؤتمر العربي الأول في باريس عام 1913 والذين سيطروا على الساحة حيث رفعوا شعار تحرر العرب من السيطرة الأجنبية والاستعمار الأوربي الحديث على العكس من الإسلاميين الذين فرضوا مبدأ الاستكانة للاحتلال العثماني الذي رسخ التخلف في المجتمعات العربية وانحدر العرب في عهدهم إلى درك التخلف الحضاري وأسهمت سياسة التتريك التي قادتها جمعية الاتحاد والترقي الى ازدياد الهوة بين العرب وشعورهم القومي المتنامي ومقام الخلافة الديني المقدس عندهم حتى قادوا حربا ضدها ساهمت في انهيارها في نهاية المطاف ومنذ الثورة العربية سيطر القوميون الأوائل على الرأي العام العربي في مقابل انهيار سمعة رجال الدين المرتبطين ذهنيا بالتخلف العثماني والذي فرض نمطًا من الإسلام السني (الصوفي) المعتمد على الخزعبلات والذي لم يعد مقبولا في عصر العقلنة والحداثة.
وفي مقابل هذا التيار كان هناك تيار خفي يترعرع ويعتاش على فكر عبد الوهاب وابن تيمية استطاع ان يجد له منفذًا خارج الجزيرة بأرض العرب في فكر تلميذ محمد عبدة الشيخ محمد رشيد رضا الذي كان شيخ الامام البنا ملهم الإسلاميين العرب الأول بلا منازع لكن البنا بدهائه السياسي الفريد وبخلفيته الصوفية وفكره الأصولي استطاع ان يستوعب التناقض بين العلمانية والأصوليين ويؤسس جماعة الاخوان العالمية التي رفعت شعار الدولة الدينية والخلافة من جديد لكنها لم تنقض أسس الدولة القومية وحاولت بأسلوب المناورة والحنكة السياسية التي يمتاز بها البنا المزاوجة بين آليات الوصول إلى السلطة بالطرق المتاحة (الدستورية والثورية) وبين متطلبات إقامة الدولة الدينية وظل التناقض الذي سيظهر حال توليهم السلطة، بين الدستور العلماني ومتطلبات اقامة الخلافة السياسية العالمية التي تصهر القوميات وتبطل أسس العلمنة وتحتكم إلى الشريعة الإسلامية بتراثها الفقهي المثير للجدل والذي يتعارض مع قيم الحداثة الأوربية التي انتشرت في مجتمعاتنا العربية الإسلامية، لا يناقش أو يناقش على استحياء مؤجلين هذا الأمر حتى الاستيلاء على السلطة وبعد أن وجد الاخوان مساحة من الحرية في عصر الممالك العربية ( الجيل القومي الأول) عملوا في الخفاء لإسقاط تلك الممالك وإقامة الحكم الجمهوري من خلال تنظيم الضباط الأحرار والذي كان الوجه الخفي للتنظيم العسكري للاخوان والذي كان يعمل بدون الرجوع إلى المرشد العام أحيانًا وبدلا من أن يعتلي الاخوان سدة الحكم انقلب الانقلابيون عليهم وأطاحوا بهم وطاردوهم هذا الاضطهاد جعل كفة القيام بالانقلابات العسكرية واتباع اسلوب التآمر هو الأرجح هو الأسلوب الأكثر قبولا لدى جماعات الاخوان في مصر وسوريا والعراق وبدأ التمايز بين مشروع الاخوان في اقامة الخلافة وبين الدولة المدنية يظهر بشكل مضطرد وأنحسر الاتجاه الذي كان يقوده البنا مع ظهور سيد قطب وفكره التكفيري الذي ترعرع في ظل سجون الناصريين لجماعة الاخوان حلفائهم السابقين وبدأت بذور التكفير تكبر وظهر تيار جديد لا يؤمن بالدولة المدنية ولا بآلياتها ويُشبه حال المجتمع العربي اليوم بالجاهلية الأولى فظهر على يد قطب والمودودي والخميني مصطلح شرك الحاكمية وضرورة جهاد حكام الدول العربية والاسلامية الذي وضع أسفينا وتمايزا بين مشروع الاسلام السياسي وبين الدولة المدنية وقضى على شعرة معاوية التي كان يمسكها الامام البنا رحمه الله بين هذين المتناقضين وطلق الإسلام السياسي بصورة واضحة وجلية مشروع الدولة المدنية ومع تنامي المد الوهابي الذي رعته المملكة العربية السعودية عبر أموال البترو- دولار وفتح الجامعات السعودية للعديد من الشباب العربي والإسلامي للدراسة فيها و التي تم استقطاب كبار الدعاة للتدريس فيها بدأ التمايز وتتسع الفجوة خاصة مع فشل القوميين العرب بتحقيق تطلعات الشعوب العربية في تحرير فلسطين وتحقيق النهضة العربية ومكافحة الفقر واقرار مبادى الحرية والعدالة الاجتماعية في البلاد العربية فتدنت شعبية القوميين العرب الذين اشتهروا بالفساد وسوء ادارة السلطة.
الإسلام السياسي اليوم بكل أطيافه وان اعتلى سدة الحكم في أي بلد فإن مشروعه المستتر هو ضد الدولة المدنية وبالتالي لا يتورع من تهديم اركانها واستنزاف مواردها والمخاطرة بمستقبل شعبها في سبيل الحلم الأكبر لدى الإسلاميين بشقيهم الشيعي والسني في اقامة دولة الخلافة وتنصيب خليفة عالمي للمسلمين يقود الأمة ويسوسها في ظل الشريعة الإسلامية ، لذلك فان الاسلام السياسي اليوم بجميع اطيافه واحزابه لا يختلف مع دولة خلافة البغدادي المقيتة إلا في أسلوب إقامة وتحقيق هذا الحلم المشترك بينهما فالبغدادي كان صريحا وواضحا في تطبيق مفهوم الدولة الإسلامية وفي إدارته لتلك الدولة فالدولة الدينية لا تعرف ولا تعترف بحدود سياسية فهي تنتشر عبر العالم ومشروعها هو السيطرة على العالم برمته واخضاعه لحكم خليفة وسلطان المسلمين وهذا ما يسعى اليه خليفة داعش وما تمارسه السعودية اليوم في محاولة تمددها عبر دعم الحركات السلفية في العالم الاسلامي وما تمارسه ايران اليوم باعتبارها الشقيقة الكبرى للشيعة في العالم الاسلامي، كما ان استنزاف موارد تلك البلدان في سبيل الدعوة المذهبية واضح جدا وتسخير موارد الدولة من أجل هذا المذهب الديني أو ذاك في حين إن شعوب تلك البلدان تعاني من الفقر ومن العوز، كما فعل بالضبط خليفة داعش الذي استنزف خيرات العراق وسوريا وترك أهلها يتضورون جوعا وفقرا تحت يافطة مقاتلة الكفرة والمرتدين والروافض والدفاع عن حياض الخلافة.
إن مشروع الاسلام السياسي اليوم هو القضاء على الدولة المدنية وان حاول الاسلاميون اليوم في العراق وفي مصر وفي غيرهم من الدول اظهار أنفسهم على أنهم من رعاة الدولة المدنية فما تنازلهم عن بعض افكارهم في هذه المرحلة أو تلك إلا بسبب الواقع الذي فرضته تجربة الحكم وادارة البلد حيث وجدوا من غير الممكن تطبيق أفكارهم في عالمنا اليوم ولا ندري هل غير المنظرون فكرتهم بخصوص مشروع الدولة المدنية أم أنهم كما غيرهم من الأيديولوجيين الحالمين الذين يؤجلون تطبيق أحلامهم الميتافيزيقية إلى زمن قادم لن يأتي حتى في عالم الأحلام، لذلك نحن نستطيع القول اليوم بأن ولاء الإسلام السياسي ليس للدولة أو المواطن وإن مشروع الإسلام السياسي مشروع خطير على الدول التي يتواجد فيها ويهدد بتقويض أركان الدولة المدنية واستنزاف خيراتها كما أنه يمهد لنشوء جيل ارهابي تربى على النصوص الفقهية التي تستحل دماء غير المسلمين وغزو الكافرين وسبي نسائهم وأطفالهم.