من عجائب القرآن التي لا تنقضي أن ذكر الصيام جاء تاليا لذكر الوصية، فقال جل في علاه: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ }[1]، وتستطرد الآيات في تفاصيل الوصية ثم تفاجئنا بالدخول في موضوع يبدو وكأنه جديد وغير ذي صلة، وهو تشريع الصيام، فيقول جل في علاه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[2]. فبالنسبة للوصية التي فرضها الله على كل من تحضره الوفاة و يترك خيرا، لنا تساؤل: أهناك خير أفضل من الإرث الروحي والإيماني للنبوة؟! قطعا سيكون الجواب بـلا، إذًا فقد ترك خاتم النبيين r وصية لتبيان الحقوق في ذلك الإرث، فلننظر، ماذا عسى تلك الوصية تكون؟!
إذا كان النبي الخاتم r لا يهتم لكنوز الذهب والفضة والبترول والأوراق النقدية، فإننا مضطرون إلى أن نفهم حديثه الشريف: “يَقْتَتِلُ عِنْدَ كَنْزِكُمْ ثَلَاثَةٌ كُلُّهُمْ ابْنُ خَلِيفَةٍ ثُمَّ لَا يَصِيرُ إِلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَطْلُعُ الرَّايَاتُ السُّودُ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ فَيَقْتُلُونَكُمْ قَتْلًا لَمْ يُقْتَلْهُ قَوْمٌ …. فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَبَايِعُوهُ وَلَوْ حَبْوًا عَلَى الثَّلْجِ فَإِنَّهُ خَلِيفَةُ اللَّهِ الْمَهْدِيُّ”[3]. نفهم من الحديث أن الكنز المُقتتل عليه كنز من نوع خاص، إنه كنز روحاني، وقد حكم نبينا الخاتم بأحقية الكنز لابنه الروحي وتابعه المخلص الأمين، حت أنه r ذكر في نهاية حديثه أن إذا رأيتموه فبايعوه ولو حبوا على الثلج، فإنه خليفة الله الْمَهْدِيُّ.
إن من تحضره الوفاة لا يوصي إلا لخشيته من ضياع الحقوق وجوع اليتامى من بعده، فهذا شيء وارد في الأغلب، ونحن يتامى أمة محمد بعدما توفي أبونا وعائلنا الروحي، وقد ضاعت حقوقنا طيلة تلك القرون فصرنا أضيع من الأيتام على موائد اللئام، من تجار الدين، وعلماء آخر الزمان. لهذا، فقد راودتني فكرة أن الحديث عن الصيام في سورة البقرة، والذي تلا الحديث عن الوصية مرجعه أن الله ينبئ المتقين من هذه الأمة أن أمتهم ستمر (مثل أمم خلت) بفترة جوع روحاني تقدر بقرون ثلاثة عشر، ثم يأتي على رأس القرن الرابع عشر بدر يهل هلال العيد ببيعته.
إن البطن تقاسي الجوع بمتوسط أربع عشرة ساعة يوميا، أوليس فترة الجوع تلك إشارة إلى جوع آخر أجَل خطرا؟! أمرنا الله تعالى بخوض مقاساة جوع البطن كي تنفتح شهيتنا لغذاء الروح، وأمرنا بالامتناع عن الماء المادي لنتيح لأنفسنا الارتواء بماء الوحي.. نصوم ساعات أربع عشرة في المتوسط كل يوم، عسى أن تلتفت عقولنا إلى تلك السنة الربانية الجارية في الكون ، وهي أن الأمم تجوع روحانيا كما يجوع الفرد ماديا، فعندما يشير جل وعلا شأنه إلى أن الصيام كتب علينا كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا، فعلينا إذا أن نفتش عن (كيف صام من قبلنا؟!!!!) ولا أظن أننا سنحصل على جواب شاف إذا ما كان بحثنا عن عدد ساعات صيامهم وأي الشهور صاموا، ولكن حتما سنصل إلى نتيجة مبهرة إذا ما علمنا أنهم صاموا كذلك مدة أربعة عشر قرنا منذ طلوع شمسهم الروحانية متجسدة في نبيهم المشرع، إلى بزوغ بدرهم الروحاني متجسدا في نبيهم التابع.. وهذه النظرة من هذا الجانب لا تنفي أن تكون الأمم الخالية قد صامت أياما معدودات معلومات ممتنعة عن الأكل والشرب والطيبات المادية كشعيرة من الشعائر.
لقد بدت المسألة الآن أكثر وضوحا، فهلا نكون من المتقين تنفيذا لوصية أبينا النبي الخاتم r وتحقيقا لمقاصد ذلك الصيام ؟؟!!
[1] (البقرة 180)
[2] (البقرة: 184)
[3] (سنن ابن ماجه, كتاب الفتن)