بضعة أيّام تفصلنا عن احتفال عموم المسلمين بذكرى الإسراء والمعراج. إنّ مسألة الإسراء في حدّ ذاتها تعتبر إحدى المعضلات التي اختلف حولها المفسّرون القدامى والمحدَثون، وذلك لكثرة الأحاديث والروايات وتضارب الآراء. ولقد جرت عادة غالب المسلمين أن يجمعوا بين واقعة إسراء رسول الله وواقعة عروجه صلّى الله عليه وسلم فيحتفلون بذكراهما في وقت واحدٍ باسم “ذكرى الإسراء والمعراج”.. اعتمادًا على بعض روايات جمعت بينهما. والحقيقة تحتاج إلى تدبر حتى تنكشف للعقول.
أوّلًا وقبل كلّ شيء أوضّح لكم أنّ حادث المعراج مذكور في القرآن الكريم، ومعنى المعراج الصعود وذلك في سورة النجم حيث قال الله تعالى:
إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى. عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى. ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى. وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى. ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى. فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى. فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى. مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى. أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى. وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى. عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى. عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى. إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى. مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى. لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى. (النجم 4-18)
تشير هذه الآيات إلى المعراج النبوي الشريف، والدليل على ذلك هو أنّ كلّ ما ورد فيها يتعلق بحادث المعراج. ويُستخلص من هذه الآيات ما يلي:
1 – وصولُ النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى سدرة المنتهى.
2 – غشيانُ شيءٍ ما سدرةَ المنتهى أثناء ذلك.
3 – رؤيتُه – صلى الله عليه وسلم – الجنةَ عندها.
4 – وصولُه – صلى الله عليه وسلم – إلى حالة وصفها قوله تعالى: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى}.
5 – رؤيتُه – صلى الله عليه وسلم – البارئ تعالى.
6 – نزولُ الوحي عليه – صلى الله عليه وسلم.
وكل هذه الأمور مذكورة في الروايات التي تصف حادث المعراج.
لقد ثبت بذلك أن الحادث الذي تشير إليه سورةُ النجم إنما هو حادث المعراج نفسه.
الآن نرى ماذا حدث في الإسراء:
سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ. (الإسراء 2)
لقد ورد في التاريخ أنّ الإسراء وقع في ربيع الأول أو الثاني أو رجب أو شعبان من السنة الحادية عشرة النبوية (شرح الزرقاني على المواهب اللدنية: وقتُ الإسراء).
إنّ التاريخ والحديث والعقل كلها تؤكد أن حادث الإسراء قد وقع بعد السنة الحادية أو الثانية عشرة النبوية. وأمّا حادث المعراج فقد حصل بعد السنة الخامسة النبويّة. فما دام الحادثان تفصلهما فترة زمنيّة لا تقل عن ست أو سبع سنوات فكيف يمكن اعتبارهما حادثًا واحدًا؟ إذن فإنّ المعراج غيرُ الإسراء الذي زار فيه النبيّ – صلى الله عليه وسلّم – بيت المقدس.
إنّ الإسراء، كان كشفًا من الكشوف اللطيفة، وإليكم أدلة ما نذهب إليه:
الدليل الأوّل: هو رواية أنس – رضي الله عنه – التي تُفضّل على باقي الروايات من حيث التفصيل. فقد جاء فيها أن النبي – صلى الله عليه وسلم – رأى في الطريق عجوزًا، ثم شيئًا يدعوه متنحّيًا عن الطريق، ثم خلقًا من الخلائق، وبعد ذلك عُرض عليه الماء والخمر واللبن، فتناول اللبن، ثم قام جبريل – عليه السلام – بتأويل هذه الأحداث كلها.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: إذا لم يكن الإسراء كشفًا من الكشوف فلماذا قام جبريل بهذه التأويلات؟ وإذا كان النبي – صلى الله عليه وسلم – قد أُسريَ بجسده المادي فلماذا رأى الدنيا على شكل عجوز؟ وهل في القرآن أو الحديث أن الدنيا امرأة عجوز في الحقيقة؟ فرؤية النبي – صلى الله عليه وسلم – الدنيا على صورة عجوز تدلّ صراحةً على أنّ الإسراء كان كشفًا من الكشوف الروحانيّة اللطيفة، وإلّا لقال النبي – صلى الله عليه وسلم – لجبريل على الفور: لماذا تتكلف وتلجأ إلى التأويل، فقد رأيتُ هذه العجوز بأم عيني الجسمانيّة آنفًا؛ فهل يحتاج ما يُرى بالعين إلى تأويل؟ ولكنّا نجد النبي – صلى الله عليه وسلم – قد لزم الصمت على تأويل جبريل لهذه المناظر، مما يوضح أنه اعتبر هذا الحدث كشفًا.
إنّ فرحة جبريل على رفض النبيّ – صلى الله عليه وسلم – الماءَ أيضًا تؤكد كون الإسراء كشفًا من الكشوف، إذ لو كانت رحلته هذه بجسده المادي فلماذا تغرق أمته نتيجة شربه – صلى الله عليه وسلم – الماءَ وقد كان يشرب الماء في حياته دائمًا؟ فما الضمان إذًا لنجاة أمّته من الغرق وقد شرب الماء آلاف المرات في حياته المادية؟!
الدليل الثاني: إن القرآن الكريم أيضًا قد سمّى هذا الحادث رؤيا كما قال الله تعالى في هذه السورة نفسها: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} (الإسراء: 61)، ممّا حدا بعديد من الصحابة والعلماء الأسلاف على اعتبار الإسراء رؤيا من الرؤى. فقد “أخرج ابنُ إسحاق وابن جرير عن معاوية بن أبي سفيان أنّه كان إذا سئل عن مسرى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: كانت رؤيا من الله صادقةً” (الدر المنثور). وهو أيضًا مذهب أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها. (السيرة النبوية لابن هشام: (1) ذكر الإسراء، ومختصر زاد المعاد: فصل في الإسراء ص 203)
الدليل الثالث: قولُ النبي – صلى الله عليه وسلم -: لمّا أخبرتُ الناسَ بذهابي إلى القدس سألوني أن أَصِفَها لهم، وكنت لا أعلم من مَعالمها شيئًا، فتردّدت في وصفها. فلو كان النبي – صلى الله عليه وسلم – قد زار القدس زيارة ظاهرة لما تردد في وصفها. فقد ورد أنّ النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: “لما كذّبتني قريش حين أُسريَ بي إلى بيت المقدس، قمتُ في الحِجر، فجلّى اللهُ لي بيتَ المقدس، فطَفِقْتُ أخبرهم عن آياته وأنا أنظر إليه.” (البخاري: كتاب التفسير، باب قوله أسرى بعبده ليلاً)
وجدير بالذكر أنّه ممّا لا شك فيه أنّ القرآن الكريم قد استخدم للإسراء كلمة الرؤيا، ولكن يجب أن لا ينخدع بذلك أحد فيظنها كالأحلام والرؤى العادية. فإن “الرؤيا” بلُغتنا العربية تطلَق على الحلم وكذلك على الكشف الروحاني. والكشف هو غير الحلم العادي، ولا يراه الإنسان في النوم، وإنّما يراه ما بين النوم واليقظة.. أي في حالة شبه غيبوبة حين لا يكون نائمًا، وإنّما تكون حواسه الظاهرة نشيطة في عملها، بل أحيانًا يرى الإنسان الكشف وهو يحاور صاحبه. وكشوف الأنبياء أكثر لطافة وشفافية من كشوف الآخرين، لأنهم يستطيعون أن يروا بعيونهم الكشفيّة ما يقع بالضبط في أماكن نائيّة للغاية.
واعلم رعاك الله أن الكشوف ثلاثة:
1 – ما تكون مَناظرُه مطابقةً للواقع المادي، تمامًا كما يرى الإنسان بالمرقب الأشياء البعيدة.
2 – ما يكون بعض مناظره مطابقًا للواقع المادي، وبعضه يتطلب التأويل.
3 – ما تحتاج كل مناظره إلى التأويل.
سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم، اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد