هذا المقال ليس سياسيا بالدرجة الأولى وإنما هو مقال تحليلي يتناول الظروف والأحوال التي نعيشها حاليا ويجيب عن هذا السؤال الذي يطرح من قبل العديد من القراء وذلك بعد أن أفلت دولة الخلافة المزعومة وبدأت تنحسر في العراق.
فبعد أن كانت تقترب من حدود ومشارف بغداد فالآن هي تنحصر في الساحل الأيمن من مدينة الموصل وتلعفر والحويجة وبعض قرى الأنبار، وفي ظل زخم اندفاع الجيش العراقي والقوات المتجحفلة معه فإن أيام داعش في العراق أزفت على الانتهاء… وأقول وبكل صراحة قد انتهى سيناريو داعش في العراق ولن أتكلم عما يجري في سوريا عملا بما قرره الفقهاء من قبل (لا يفتي أهل الثغور إلا أهل الثغور) فأهل مكة أدرى بشعابها.
ومع نهاية هذا الدور المرسوم لتنظيم داعش ينظر الكثير من السياسيين ومن المهتمين بالشأن العراقي إلى دور السنة في عراق ما بعد داعش، وهذا الأمر لا يعنيني من الناحية السياسية فأنا أتكلم هنا كباحث ديني منتمي للجماعة الإسلامية الأحمدية (التي لا تحمل منهجًا سياسيًا)، فلا أحمل نفسي أوزار السياسة ولا تفرعاتها الملتوية، فحيث يقول هؤلاء إن بقي تهميش للسنة في العراق سيظهر لنا جيل جديد من داعش سيكون أقوى من داعش نفسها، والحقيقة هذا الطرح هو فزاعة وبالون إختبار يطلقه هؤلاء ضد خصومهم السياسيين من الطرف الآخر لكي يتاح لهم حصة أكبر في إدارة الحكم، وذلك لأن هذا الطرح غير واقعي بتاتًا، ولكوني سني المنبع وأنتمي إلى مجتمع الأنبار فأعرف تمامًا ما هي توجهات المجتمع العربي السني في بلادنا في العراق.
فالكل يعلم أن داعش هي نتاج التزاوج بين الجيلين الثاني والثالث للقاعدة وكان هذا التنظيم الناشئ أشرس من القاعدة الأم. واكتسب هذا التنظيم خبرة واسعة قتالية جعلته يتمكن من أن يحول استراتيجيته القتالية من إيقاع الخسائر بالعدو من خلال حروب العصابات والانتحارية (استراتيجية القاعدة القديمة) إلى مسك الأراضي والسيطرة على الموارد البشرية والاقتصادية وتوظيفها في خدمة بناء دولتهم المسخ.
وهذا الجيل ظهر نتيجة ظروف موضوعية وظروف ذاتية كان أهمها التهميش المتعمد لدور سنة العراق في بناء العراق الجديد والممارسات الطائفية لبعض أجنحة الأحزاب الشيعية الإسلامية وفي ظل عدم ثقة الأكراد بالعرب السنة وتحالفهم الاستراتيجي مع الشيعة في أيام معارضة نظام صدام حسين، إضافة إلى عوامل ذاتية أخرى منها على سبيل المثال هو عدم قبول العقلية السنية لمبدأ المشاركة في الحكم مع الآخرين نتيجة قرون من السيطرة السنية على مقاليد الحكم في العراق وفي المنطقة، إضافة إلى تغلغل الفكر السلفي في المجتمع السني في العراق منذ نهاية ثمانينات القرن الماضي مستفيدا من فشل تجربة حكم البعث العلماني في العراق نتيجة ممارسات البعث الدموية وفشله في إدارة موارد العراق بصورة صحيحة، ومستفيدا من تراجع وانتكاسة المد العلماني – الحداثي في العراق بسبب سيطرة التقاليد البدوية والريفية الغارقة في القدم على تقاليد المدينة التي تبلورت مع ظهور الدولة العراقية الحديثة على يد البريطانيين بسبب هجرة أهل الريف إلى المدينة وسيادة القيم العشائرية التي جعلت من الثقافة الحداثية في العراق تنحصر في عقول القلة من المثقفين في المجتمع.
فهذا الفكر السلفي الذي سيطر على العقلية السنية بصورة مباشرة أو غير مباشرة جعل هامش المناورة في المواقف البراغماتية التي تتطلبها السياسة محدودا جدا في العقلية العربية السنية، فحولت السلفية الأدمغة الشبابية إلى عقليات صِدامية هجومية لا تؤمن بالمفاوضة ولا تفهم كيفية إدارة السياسات لرعاية مصالحهم الذاتية كأقلية في مجتمع مضطرب يموج في أغلبية شيعية امتدادهم العمق الإيراني واضح جدًا وفي وسط منطقة تغوص بالأغلبية السنية العربية الإسلامية لكنها مشتتة بسبب انحسار الدور العربي إلى أدنى مستوياته منذ ظهور الإسلام.. فدول الخليج كما وصفها هيكل لا تجيد إلا ممارسة النفوذ لا الهيمنة في ظل غياب مصر الغارقة بحروبها مع إسرائيل ومشاكلها وأزماتها الاقتصادية التي لا تنتهي.
كل هذه العوامل ساعدت في وجود حواضن اجتماعية لداعش في المجتمع السني خصوصا بعد ثورات الربيع العربي التي هوت بحاكم ليبيا واليمن وأشعلت ووحدت السنة في المنطقة ضد حكم عائلة الأسد العلوية في سوريا، لذلك انضوت الكثير من القوى السنية الفاعلة تحت لواء داعش للسيطرة على المناطق السنية.
أما أفكار داعش وعقائدها فهي تمثل انعكاس للتراث الفقهي السني، وشاء من شاء وأبى من أبى فهذه حقيقة نعرفها نحن أبناء السنة في العراق وفي العالم العربي سواء اعترفنا بهذه المعلومة أم لا فهي حقيقة. ومحاولة نيل المكاسب بالتقاسم مع داعش التي تشكل بعبعًا للقوات الأمنية العراقية إلا أن تنظيمًا إرهابيًا كداعش اعتاد على العمل في الظلام لا تنطلي عليه حيل بعض التحالفات التي عقدتها معه فصائل سنية مسلحة كالبعثيين والأخوان وغيرهم فسرعان ما بلعت داعش تلك الفصائل في الأيام الأولى لسقوط المحافظات العراقية وقضت عليهم في تصفيات جسدية واجتماعية.
ولكن ما دفعه أهل السنة من ثمن لمساعدتهم ومساندتهم لهذا التنظيم أو على الأقل الرضى الخفي عن أفعال داعش تنكيلا بالممارسات الطائفية لأحزاب السلطة بعد عام 2003 كان باهظا جدا جعل من الصعب أن يتقبل المجتمع السني العراقي من جديد الأفكار الوهابية التي زرعتها السعودية فيهم من سبعينيات القرن الماضي.. ولا أكون مبالغًا إن قلت إن عموم أهل السنة اليوم يؤمنون الآن بضرورة فصل الدين عن الدولة لأسباب براغماتية تتعلق بأن الدولة الدينية لا بد أن تعاملهم كأقلية وأسباب كما قلنا تتعلق بنتائج التجربة الداعشية التي أحالت المناطق السنية إلى خراب على جميع الأصعدة والتي شتت الموارد البشرية والكفاءات التي كان يتميز بها هذا المجتمع، فهذا جعل من المستحيل أن ترجع المحافظات السنية إلى واقعها قبل عقود من الزمن، وستعاني من الفقر والإهمال من الطبقات الحاكمة، وسيكون فيها تنازع وتناحر بين أفراد المجتمع نفسه نتيجة الثارات والتصفيات التي تركها حكم داعش الدموي فيها.
ولا أذيع سرًا لو قلت بأن الرصيد الديني عند أهل السنة تراجع كثيرا إلى الحد الذي لا يساعد بنمو أية حركة إسلامية (وسطية أو متطرفة) فقد طلق أهل السنة في العراق الفكر السلفي طلاقًا بائنا، ومعظم أهل السنة اليوم إيمانهم إيمان إجمالي لا تفصيلي، وسنجد أنفسنا في المستقبل أمام جيل قادم لا يقبل الدين نفسه وهذه نتيجة طبيعية لأسباب ذكرنا البعض منها سالفًا.